هناك روايات تاريخية تقرأها لتعرف قصة الماضي، وهناك أعمال أدبية تستخدم الماضي كمرآة لتريك جروح الحاضر وشقوق الروح الإنسانية. رواية “زمن الرجل الطائر” تنتمي إلى النوع الثاني. إنها ليست رحلة ممتعة عبر التاريخ، بل هي غوص عميق ومقلق في عالم قاسٍ، عالم لا مكان فيه للأبطال الواضحين أو النهايات السعيدة، فقط أرواح ممزقة تحاول البقاء على قيد الحياة في زمن لم يعد فيه اليقين موجوداً.
تأخذنا الرواية إلى فجر القرن السادس عشر في المغرب، وهي فترة تاريخية مفصلية شديدة الاضطراب. إنه زمن تتآكل فيه السلطنة الوطاسية من الداخل، بينما تطرق أبوابها قوة جديدة وصاعدة بلا رحمة: الإمبراطورية البرتغالية. وفي الجنوب، تنبت بذور دولة جديدة، السعديون، التي ستغير وجه المغرب إلى الأبد.
لكن الرواية لا تقدم لنا هذا التاريخ كدرس في كتاب، بل كشخصية حية وحاضرة. الأرض نفسها تبدو شخصية من شخصيات العمل: من أسوار أصيلة المنيعة التي تشهد على الصراع، إلى جبال شفشاون الوعرة التي تحمي أسرارها، وصولاً إلى قصور فاس التي تضج بالمؤامرات الخافتة. إنه عالم عالق بين زمنين: عالم الإيمان والتقاليد الذي يواجه عنف المدافع ومنطق الدولة الحديثة، وعالم الولاءات القبلية الذي يتصدع أمام سلطة مركزية مهتزة. هذا ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو القوة التي تصوغ مصائر الشخصيات وتطحنها بلا هوادة.

لا تمسك في هاته الرواية بيد بطل واحد وتتبعه في رحلة خطية. إن بنية الرواية تشبه لوحة فسيفساء ضخمة ومعقدة. كل فصل هو قطعة من هذه اللوحة، يُروى من خلال عيون شخصية مختلفة، وفي زمن مختلف أحياناً. القصة لا تُروى، بل تُكتشف. القارئ مدعو ليقوم بدور المحقق والمؤرخ، ليجمع الشظايا ويربط الخيوط ويكتشف ببطء كيف أن كل مصير، مهما بدا بعيداً، يرتبط بالآخرين في شبكة مأساوية محكمة.
هذا الأسلوب ليس استعراض فني، بل هو جوهر رسالة الرواية: التاريخ ليس له حقيقة واحدة، بل هو مجموع الحقائق الذاتية والمتضاربة لكل من عاشوه. من خلال هذه الأصوات المتعددة، نرى نفس المعركة من وجهة نظر القائد والمجند، ونفس المأساة من وجهة نظر الضحية والجاني.
الأبطال الحقيقيون لهذه الملحمة ليسوا الرجال، بل الأشباح التي تسكنهم. كل شخصية رئيسية هي دراسة نفسية عميقة لرجل تطارده ذاكرة أو صدمة أو سر يحدد كل قراراته:
محمد “البرتغالي”: السلطان الذي يحكم بلداً يشك في ولائه. عالق بين طفولته كأسير مذهّب في لشبونة وواجبه كملك للمغاربة، يقضي حياته في حرب لا يعرف فيها إن كان يحارب العدو أم يحارب نفسه.

زيّان: الأمير الساقط، الرجل الذي تمزقه ثلاثة أصوات متصارعة في رأسه. هو تراجيديا متحركة عن الطموح والخيانة والبحث اليائس عن معنى في عالم لم يعد يعترف بنسبه.

إدريس: الفلاح الهادئ الذي بنى لنفسه جنة صغيرة في الجبال. لكن تحت هذا الهدوء، يختبئ ماضٍ دموي من التطرف الديني، وهو يعيش في خوف دائم من أن يرث ابنه “المبارك” هذا التاريخ المظلم.
إسبيكترو: المرتزق الغامض، شبح يقاتل مع البرتغاليين. هو تجسيد حي لدائرة العنف التي لا تنتهي، رجل سلبه التاريخ كل شيء – وطنه، عائلته، وحتى اسمه – ولم يترك له سوى غضب مطلق لا يعرف وجهة.

بوشعيب: الابن الضال الذي يرفض كل منظومة أخلاقية إلا منظومة القوة. هو ليس شريراً، بل هو نتاج طبيعي لعالم وحشي، فيلسوف عدمي يرى في ضعف الآخرين مجرد فرصة لتأكيد وجوده.
عبّو/بوشتى: الطفل الأعمى الذي ينجو من مذبحة ليتحول إلى “ولي قديس”. هو مرآة صافية تعكس كل آمال ومخاوف مجتمعه، وقناة تتصارع من خلالها القوى السياسية والدينية للسيطرة على المستقبل.

“زمن الرجل الطائر” ليست رواية تقدم إجابات أو راحة للقارئ. إنها عمل يحاول أن يطرح أسئلة: ما هي الهوية؟ كيف تصنع الأساطير من رحم الألم؟ هل يمكن كسر دائرة العنف؟ وهل النجاة في عالم محطم نعمة أم لعنة؟

إنها دعوة للغوص في زمن لم يمت تماماً، ولاستكشاف الأماكن المظلمة في التاريخ وفي النفس البشرية على حد سواء.